كالعادة خرجت باكرا ذاك اليوم متجهة نحو المدرسة، كان يبدو يوما كسائر الايام، لكن في طريقي، قابلت ابتسامة لم ار متلها من قبل ،ابتسامة لم يستطع الدهر ان يمحو جمالهاو براءتها، انها ابتسامة رجل مسن بدت علامات الزمن على وجهه، لم انس دلك البريق في عينيه الرماديتين،ولا تلك اللحية البيضاء التي كانت تكسو ذقنه...
لم اكن قد رأيته من قبل، و ربّما لم اكن لألاحظ وجوده حتّى. نظر إليّ و هو يبتسم، فكّرت انّه يريد نقودا بعد ان رأيت بضعة دريهمات موضوعة امامه حيت يجلس.فسارعت للبحث في جيبي و اخرجت درهما ووضعتها امامه.ظلّ ينظر اليّ مبتسما،بادلته الابتسامة ثم تابعت طريقي...
لم تفارق ابتسامته ذاكرتي طوال اليوم، تساءلت ان كنت سأجده في اليوم الموالي مجددا.عرفت الجواب حين رأيته هناك.وقفت لبرهة دون ان يراني حتّى يتسنّى لي التمعن في هيئته. كان هناك جالسا تماما كما رأيته من قبل،كان يبدو هرِما ، هزيل البنية ذو رأس صغير يكاد يختفي تحت عمامة بالية،مرتديا جلبابا يكاد لا يُعرَف لونه.
تقدّمت نحوه وألقيت التحية،نظر اليّ وقد اتّسعت عيناه و ملأهما ذلك البريق مجدّدا،لقد تذكّرني.ابتسم لي و سال بصوت يكاد لايُسمع:كيف حالك ابنتي؟ ظلّت تلك الكلمات تتكرّر في مسمعي،ثمْ اجبته مرتبكة: أنا...أنا بخير.ثم وضعت امامه بعض النّقود.لكنّه لم يبدُ مُكترثا للنقّود.ظلّ يبتسم ثمّ ق ام بترديد بعض الدّعوات التي اعتدنا ان نسمعها من اجدادنا و من الناس المسنّين.
تابعتُ طريقي و قد تبادرت الى ذهني اسئلة لا تُحصى.من اين اتى هذا العجوز المسكين؟هل لديه اولاد؟الديه مورد عيش غير التسوّل؟من يعتني به يا تُرى؟ألديه زوجة؟ألديه مأوى يحميه و يُدفّيه؟
أسئلة كثيرة و محيّرة،لكنّني قرّرت أن أساله في اليوم الموالي، نعم،قرّرت أن أسأله و أساعده،لم اعرف كيف ،لكنّي كنت متأكّدة من وجود ما يكمن يفعله لهذا العجوز المسكين الذي اسحوذ على تفكيري
طال انتظار اليوم الموالي،لم اتمكّن من النّوم و انا افكّر و افكّر..و ما أن حان الوقت حتّى قمتُ مسرعة و ارتديت ملابسي.اخذتُ معي قطع حلوى و حليب، اردت ان اقدم له الفطور ذلك الصباح. وصلتُ إلى نفس المكان، لكن.. لم يكن هناك!ظللت أتساءل..هل غيّر مكانه؟ربّما لم يستيرظ باكرا اليوم؟او ربّما...مريض؟؟؟ ماذا لو كان حقاّ مريض؟ربّما لن يجد المساعدة،لكن كيف سأجده،هل أبلّغ الشّرطة عن اختفائه؟لكنّي لا أعرف اسمه حتى.لا أعرف شيئا عنه.
لم يكن امامي سوى متابعة طريقي خائبة الامل ،آملة ان اجده في الغد.
انتظرته في الغد ولم يأتي،لكنّي علمتُ انّه تمّ العتور الليلة الماضية، على جثة عجوز على الطريق المؤدية إلى مدرستي،و ذلك بعد ذبحة صدرية لم ينج منها المسكين.لقد كان يعاني مشاكل صحية لم يتمّ فحصها من قبل.
تعرّض المسكين لهذه الذبحة في الظّلام الحالك،بينما كان الجميع نيام،كُلّ في بييته الدّافئ بين احضان الاسرة.لكن،أنت..من كان يعلمُ انّك موجود حتّى يتأثّر بفراقك!!
عدتُ إلى هناك..حيت اعتدتُ ان اجده.كان المكان حزينا مثلي،يملؤه الشّوق لرؤية الوجه الّذي اعتاد ان يُضيئَه،دون ان اشعُر،انزلقت دمعة دافئة من عيني و انا اردّد في اعماقي:انا ايضا،لن انساك ابدا...